الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون لهم جزاءً ومصيرًا لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدًا مسئولًا}.بل كذبوا بالساعة.. وبلغوا هذا المدى من الكفر والضلال. هذا المدى الذي يصوره التعبير بعيدًا متطاولًا، يضرب عن كل ما قبله ليبرزه ويجسمه: {بل كذبوا بالساعة}.ثم يكشف عن الهول الذي ينتظر أصحاب هذه الفعلة الشنيعة. إنها السعير حاضرة مهيأة: {وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرًا}.والتشخيص ونعني به خلع الحياة وتجسيمها على ما ليس من شأنه الحياة المجسمة من الأشياء والمعاني والحالات النفسية فن في القرآن، يرتفع بالصور وبالمشاهد التي يعرضها إلى حد الإعجاز، بما يبث فيها من عنصر الحياة.ونحن هنا أمام مشهد السعير المتسعرة، وقد دبت فيها الحياة! فإذا هي تنظر فترى أولئك المكذبين بالساعة. تراهم من بعيد! فإذا هي تتغيظ وتزفر فيسمعون زفيرها وتغيظها؛ وهي تتحرق عليهم، وتصعد الزفرات غيظًا منهم؛ وهي تتميز من النقمة، وهم إليها في الطريق!.. مشهد رعيب يزلزل الأقدام والقلوب!ثم ها هم أولاء قد وصلوا. فلم يتركوا لهذه الغول طلقاء. يصارعونها فتصرعهم، ويتحامونها فتغلبهم. بل ألقوا إليها إلقاء. ألقوا مقرنين، قد قرنت أيديهم إلى أرجلهم في السلاسل. وألقوا في مكان منها ضيق، يزيدهم كربة وضيقًا، ويعجزهم عن التفلت والتململ.. ثم ها هم أولاء يائسون من الخلاص، مكروبون في السعير. فراحوا يدعون الهلاك أن ينقذهم من هذا البلاء: {وإذا ألقوا منها مكانًا ضيقًا مقرنين دعوا هنالك ثبورًا}... فالهلاك اليوم أمنية المتمني، والمنفذ الوحيد للخلاص من هذا الكرب الذي لا يطاق.. ثم ها هم أولاء يسمعون جواب الدعاء. يسمعون تهكمًا ساخرًا مريرًا: {لا تدعوا اليوم ثبورًا واحدًا وادعوا ثبورًا كثيرًا}. فهلاك واحد لا يجدي شيئًا ولا يكفي شيئًا!.وفي هذا الموقف المكروب الرعيب يعرض ما أعد للمتقين، الذين يخشون ربهم ويرجون لقاءه، ويؤمنون بالساعة. يعرض في أسلوب متهكم كذلك ساخر.{قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاءً ومصيرًا لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدًا مسؤولًا} أذلك الكرب الفظيع خير؟ أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين، وخولهم حق سؤاله عنها، وطلب تحقيق وعده الذي لا يخلف، ومنحهم أن يطلبوا فيها ما يشاءون؟ وهل هناك وجه للموازنة؟ ولكنها السخرية المريرة بالساخرين الذين يتطاولون على الرسول الكريم.ثم يمضي مستطردًا يعرض مشهدًا آخر من مشاهد الساعة التي كذب بها المكذبون. مشهد أولئك المشركين، وقد حشروا مع آلهتهم التي كانوا يزعمون، ووقف الجميع عبادًا ومعبودين أمام الديان يسألون ويجيبون! {ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك! ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قومًا بورًا فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفًا ولا نصرًا ومن يظلم منكم نذقه عذابًا كبيرًا}.وما يعبدون من دون الله قد يكونون هم الأصنام.وقد يكونون هم الملائكة والجن، وكل معبود من دون اللّه. وإن اللّه ليعلم. ولكن الاستجواب هكذا في الساحة الكبرى، وهم محشورون أجمعين، فيه تشهير وتأنيب، وهو ذاته عذاب مرهوب! والجواب هو الإنابة من هؤلاء الآلهة! الإنابة للّه الواحد القهار.وتنزيهه عن ذلك الافتراء، والتبرؤ لا من ادعاء الألوهية، ولكن من مجرد أن يتخذوا لهم أولياء من دون اللّه، والزراية على أولئك الجاحدين الجهال:{قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْمًا بُورًا}.فهذا المتاع الطويل الموروث- على غير معرفة بواهب النعمة ولا توجه ولا شكر- قد ألهاهم وأنساهم ذكر المنعم، فانتهت قلوبهم إلى الجدب والبوار. كالأرض البور لا حياة فيها ولا زرع ولا ثمار. والبوار الهلاك، ولكن اللفظ يوحي كذلك بالجدب والخواء. جدب القلوب، وخواء الحياة.عندئذ يتوجه إلى أولئك العباد الجهال بالخطاب المخزي المهين:{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا}.. لا صرف العذاب ولا الانتصار.وبينما المشهد في الآخرة يوم الحشر. ينتقل السياق فجأة إلى المكذبين وهم بعد في الأرض:{وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذابًا كَبِيرًا}.ذلك على طريقة القرآن في لمس القلوب في اللحظة التي تتهيأ فيها للاستجابة وهي متأثرة بمثل ذلك المشهد المرهوب! والآن وقد شهدوا وشهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهاية الافتراء والتكذيب والاستهزاء. ونهاية الاعتراض على بشرية الرسول وأكله الطعام ومشيه في الأسواق.. الآن يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسليه ويؤسيه، بأنه لم يكن بدعا من الرسل، فكلهم يمشون على سواء:{وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}.فإذا كان هناك اعتراض فليس هو اعتراضا على شخصه. إنما هو اعتراض على سنة من سنن اللّه. سنة مقدرة مقصودة لها غايتها المرسومة: {وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً}. ليعترض من لا يدركون حكمة اللّه وتدبيره وتقديره. وليصبر من يثق باللّه وحكمته ونصره. ولتمضي الدعوة تغالب وتغلب بوسائل البشر وطرائق البشر.وليثبت من يثبت على هذا الابتلاء: {أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}. بصيرا بالطبائع والقلوب، والمصائر والغايات. ولهذه الإضافة هنا {وَكانَ رَبُّكَ} إيحاؤها وظلها ونسمتها الرخية على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم في مقام التأسية والتسلية والإيواء والتقريب.. واللّه بصير بمداخل القلوب.. اهـ.
|